للقرآن في شهر رمضان روحٌ فريدة، ومعانٍ عديدة، تتفجر منه ينابيع الخير، وينقل المسلم إذا فكر فيه بعقله وقلبه لا بأحدهما دون الآخر قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد، وفي كل عام يضيف إلى القرآن سعة في صدري وعقلي وروحي، وهذه بعض جوانب السعة التي أحسستها وعايشتها مع القرآن في شهر رمضان:
أولا: إذا عبد الإنسان الهوى، والمال والجنس والجمال، واللذة، فهذا عقل العبد الذي يخدم عددًا كبيرًا من السادة، لا شك أن نفس هذا العبد تضيق بالمطالب المتعارضة لكلٍ، لكن العبودية لله وحده خروج من هذا الضيق إلى سعة رحمة الله تعالى الخالق الملك القدوس المهيمن، القوي الواسع الحكيم قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (من الآية 39) سورة يوسف، ولقد صور الله تعلى ذلك بالواقع الذي يعيشه الناس قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (29) سورة الزمر.
التخطيط للدنيا والآخرة:
ثانيا: الإنسان مع القرآن يخرج من ضيق التخطيط للدنيا لكي يخطط للدنيا والآخرة معًا قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَاَ} (من الآية 77) سورة القصص، {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة} (من الآيتين 219- 220) سورة البقرة، وقال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (201) سورة البقرة، وقد فقه هذا المعنى ربعي بن عامر عندما قال أمام ملك الروم: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام....) أليس هذا أرحب وأوسع من هؤلاء الذين قالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (37) سورة المؤمنون.
توسيع دائرة العلم:
ثالثا: يوسع القرآن من دائرة العلم عند الإنسان فعندما يؤمن البشر بالمادي المحسوس فقط مثل الأطفال، يجعل الإيمان بالغيب جزءًا من أسس المعرفة، بدلًا من أن يكون العلم عن طريق العقل البشري فقط يوسعه إلى دائرة العقل والنقل في الوحي الإلهي (قرآنًا وسنة)، بدلًا من أن نأخذ العلم من جهة واحدة ممن لا يسمعون إلا لأساتذتهم والمشاركين لهم في اعتقاداتهم جعل الإسلام الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وبدلًا من اعتبار التعلم حقًّا للإنسان، اعتبره الإسلام فرضًا على كل مسلم ومسلمة: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7) سورة الأنبياء، وقال صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة». وبدلًا من الإيمان بالخرافة والسحر والشعوذة والأوهام، جعل الإسلام العقل مناط التكليف، ولابد من تضافر العقل والقلب معًا في اعتقاد أية فكرة، «وليس منا من تكهن أو تكهن له، وليس منا من تسحر أو تسحر له» كما جاء في الحديث الشريف.
ضيق الاعتقاد:
رابعا: يُخرج الإسلام الإنسان عن ضيق الاعتقاد بدين أو رسول أو كتاب واحد إلى الإيمان بكل الأديان السابقة، والرسل جميعا، والكتب المنزلة فقال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (136) سورة البقرة.
سعة الإنسانية:
خامسا: يخرج القرآن والسنة الإنسان عن ضيق الإقليمية، والتعصب للبلاد أو القبلية إلى سعة الولاء لكل أرض فيها مسلم يعبد الله تعالى، حتى نسي الأوسي والخزرجي ولاءه القديم وصار أنصاريًّا فقط، وأحس المهاجرون بأن الأنصار منحوهم حبًّا وبذلًا وإيثارًا أخرجهم عن الولاء لمكة فقط إلى مكة والمدينة ثم إلى كل بلد دخلها الإسلام صارت جزءًا منا مثل فلسطين الأندلس، الهند، الصين، هذه التي كانت جزءًا من كياننا الإسلامي لا زلنا نشعر نحوها بولاء متدفق عملي يجعلنا نسعى دومًا إلى استعادتها إلى رحاب الإسلام الواسعة، ولقد فتح هذه البلاد من قبل رجال من أجناس شتى فهذا صهيب الرومي يصلي ويصوم ويقاتل ويتعلم مع أخيه سلمان الفارسي، وهؤلاء جنود في جيش عمرو بن العاص العربي، والجميع تحرك في الأرض فاتحًا حتى وقف طارق بن زياد كأنما يخاطب المحيط الأطلنطي بقوله:
لو كنت أعلم أن خلفك أمة *** يا بحر خضتك والروى أهواك
وبهذا حول الإسلام الإنسان من ضيق المواطنة إلى سعة الإنسانية، وبني الإنسان لا ليكون مواطنًا صالحًا فقط، بل إنسانًا صالحًا أيضًا، وبهذا لا يجوز أن نقبل الفتاوى التي تجيز بيع لحوم الخنازير والخمور لغير المسلمين، أو التعامل معهم بالربا أو الترخص في التعامل الأخلاقي لأن هذا ضد مقاصد الإسلام الواسعة.
سعة النفع العام:
سادسا: ينقل الإسلام الإنسان من ضيق الأنانية التي تسود العالم إلى سعة النفع العام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الناس أنفعهم للناس». فإذا رزق الإنسان مالًا أو علمًا أو وجاهة أو حكمًا،...... تفانى في خدمة الناس ونفعهم بالمال زكاة، وصدقة وعمارة لكل وجوه البر، وبالعلم تعليمًا وتربية، وبالوجاهة قضاء لمصالح الناس، وبالحكم بنشر الخير، والعدل والأمن والسعادة بين الناس، فالدور الاجتماعي في الإسلام بارز حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن ألف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»، وما أتعس الأشحاء الأنانيين وأسعد الكرماء الاجتماعيين، ودائرة النفع هنا تتجاوز الفرد إلى الأسرة (أباء أماء زوجة وولدا)، وتخرج عنها إلى الأقارب والأرحام، وتزيد إلى ابن السبيل، وكل محتاج مسلم أو غير مسلم قال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} (من الآية 38) سورة الروم.
سعة العفو والصفح:
سابعا: يوسع الإسلام من ضيق الصدور عندما يخطئ الناس في حقنا إلى سعة العفو والصفح، ومقابلة السيئة بالحسنة مع وعد الله تعالى في مقابل ذلك بجنة عرضها السماوات والأرضين، قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (133) سورة آل عمران، من هنا يتسع صدر الإنسان بالعفو والحلم، بل يكون خلقه مثل سيدنا يوسف يعطي أخواته عطاء ثريا مع قوة سلطته أن يحبسهم أو بقتلهم لكنها اختلاف الأنبياء، حيث قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، وقالها الحبيب صلى الله عليه وسلم لكل من حاربوه حربًا شديدة في مكة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ولقد انتصر أبو بكر لنفسه مرة عندما قطع النفقة عن مسطح ابن أثاثه لأنه تكلم في عرض ابنته، وعاتبه القرآن ودعاه إلى رحاب الصفح والعطاء لوجه الله تعالى بقوله سبحانه: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (22) سورة النــور، فقال بلى يا رب أحب أن تغفر لي وزاد له في العطاء.
سعة الإيمان بالقضاء والقدر:
ثامنا: يخرج الإسلام الإنسان من ضيق الصدر بالبلاء، بالمرض، بالحوادث العارضة وهي تحدث لكل إنسان إلى سعة الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره إلى سعة الصبر الجميل الذي يجلب الرضا والرحمة والسكينة والهداية قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (155) سورة البقرة، ولقد روى الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ومن يتصبر يصبره الله، وما أوتي عبد عطاء خيرًا أوسع من الصبر»، وبهذا يحمي الإسلام الإنسان من العقد النفسية والأمراض العقلية ويدفعه إلى الصبر والجلد، واحتمال المكارة دون ضجر، والسعي للتغيير دون ملل.
سعة الأمل:
تاسعا: يخرج الإسلام الناس من ضيق الناس والضغوط والتشاؤم والرغبة في الانتحار والتخلص من الحياة إلى سعة الأمل وطيب الدعاء قال تعالى على لسان بني الله يعقوب بعد أن فقد ولديه، وبعد سنين طويلة: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}- يوسف87-، ودعا سيدنا إبراهيم وذكريا ويوسف عليهم السلام أن يرزقهم الله الولد فمنحهم من فضله ودعا الله سيدنا يوسف أن يخلصه من فتنة النساء ولو بالسجن فاستجاب له ربه وأخرجه طاهرًا إلى بساط الحكم، ولم تحول المرض سيدنا أيوب إلى القنوط بل دعا الله وأخذ بأسباب التداوي فشفاه الله تعالى، ودعا الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن ينصر القلة المستضعفين على الكثرة الظالمة فنصره الله في بدر وفتح مكة والأحزاب، وكم توسع الآيات من صدر الإنسان عندما يقرأ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}- الطلاق: 2-، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}- الطلاق: 4-، وقولة تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}- الشرح: 5، 6-.
علاقة العبودية:
عاشرًا: يخرج القرآن الإنسان في علاقته بالكون من علاقة النفعية إلى علاقة التعبد لله تعالى مع أنه ينتفع بالسكن، ويتلذذ بالغذاء ويطرب لرؤية الجمال في الكون، وإذا غضب حطم هذه الأشياء حوله لكن الإسلام جعل الكون معنا مسبحًا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} (18) سورة الحـج، هذا الكون سيشهد لي يوم القيامة بأنني صليت وذكرت، ودعوت، حتى قال صلى الله عليه وسلم: «ما لبى ملب إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا» رواه الحاكم في المستدرك، نعم هذا الكون عون لنا على الخير، مسبح معنا لله تعالى هذه علاقة سامية وواسعة تجعل المسلم دائمًا معمرًا للكون مضاربًا في كل مكان وزمان، ينبذ الفساد في الأرض لأن الله لا يحب الفساد، وبهذا يكون المسلم الوحيد في العالم الذي يعمر الكون من منطلق عقيدته، وليس من منطلق النفعية الشخصية.
الكاتب: د. صلاح الدين سلطان.
المصدر: موقع أ. د. صلاح الدين سلطان.